-سورة عبس
سورة عَبَسَ من السور المكية، وهي تتناول مواضيع تتعلق
بالعقيدة وأمر الرسالة، كما أنها تتحدث عن دلائل القدرة، والوحدانية في
خلق الإِنسان، والنبات، والطعام، وفيها الحديث عن القيامة وأهوالها، وشدة
ذلك اليوم العصيب.
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر قصة ذلك
الصحابي الأعمى "عبد الله بن أُم مكتوم" رضي الله عنه الذي جاء إِلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، ورسولُ الله
صلى الله عليه وسلم مشغول مع جماعة من كبراء قريش يدعوهم إِلى الإِسلام،
فعبس صلى الله عليه وسلم وجهه وأعرض عنه، فنزل القرآن بالعتاب {عَبَسَ
وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى*
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} الآيات.
* ثم تحدثت عن جحود
الإِنسان، وكفره الفاحش بربه مع كثرة نعم الله تعالى عليه {قُتِلَ
الإِنْسَان مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ
خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ..} الآيات.
*
ثم تناولت دلائل القدرة في هذا الكون، حيث يسَّر الله للإِنسان سُبُل
العيش فوق سطح هذه المعمورة {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ*
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا*
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا
وَنَخْلاً} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة ببيان أهوال
القيامة، وفرار الإِنسان من أحبابه من شدة الهول والفزع، وبينت حال
المؤمنين وحال الكافرين في ذلك اليوم العصيب {فَإِذَا جَاءتْ الصَّاخَّةُ*
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ
يُغْنِيهِ* وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ*
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ*
أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}.
معاتبة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{عَبَسَ
وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى(2)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)أَمَّا مَنْ
اسْتَغْنَى(5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى(6)وَمَا عَلَيْكَ أَلا
يَزَّكَّى(7)وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى(
وَهُوَ يَخْشَى(9)فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10) }.
سبب النزول:
نزول الآية (1):
{عَبَسَ}:
أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزل {عَبَسَ
وَتَوَلَّى} في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل
من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل
على الآخر، فيقول له: أترى بما أقول بأساً ؟ فيقول: لا، فنزلت: {عَبَسَ
وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى}. وأخرج أبو يعلى مثله عن أنس.
{عَبَسَ
وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى} أي كلح وجهه وقطَّبه وأعرض عنه
كارهاً، لأنْ جاءه الأعمى يسأل عن أمور دينه قال الصاوي: إِنما أتى بضمائر
الغيبة {عَبَسَ وَتَوَلَّى} تلطفاً به صلى الله عليه وسلم وإِجلالاً له،
لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى من الشدة والصعوبة واسم الأعمى
"عبد الله بن أم مكتوم" وكان بعد نزول ءايات العتاب إِذا جاءه يقوله له:
مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، ويبسط له رداءه {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى} أي وما يُعلمك ويخبرك يا محمد لعلَّ هذا الأعمى الذي عبستَ في
وجهه، يتطهر من ذنوبه بما يتلقاه عنك من العلم والمعرفة !! {أَوْ
يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} أي أو يتعظ بما يسمع فتنفعه موعظتك
!! {أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى} أي أما من استغنى عن اللهِ وعن الإِيمان، بما
له من الثروة والمال {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} أي فأنت تتعرَّض له وتصغي
لكلامه، وتهتم بتبليغه دعوتك {وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى} أي ولا حرج
عليك إنْ لم يتطهر من دنس الكفر والعصيان، ولست بمطالب بهدايته، إِنما
عليك البلاغ قال الألوسي: وفيه مزيد تنفيرٍ له صلى الله عليه وسلم عن
مصاحبتهم، فإِن الإِقبال على المدبر مخلٌّ بالمروءة كما قال:
والله لو كرهتْ كفـي مُصاحبتي يوماً لقلتُ لها عن صُحبْتي بيْني
{وَأَمَّا
مَنْ جَاءكَ يَسْعَى} أي وأمَّا من جاءك يسرع ويمشي في طلب العلم للهِ
ويحرص على طلب الخير {وَهُوَ يَخْشَى} أي وهو يخاف الله تعالى ويتقي
محارمه {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} أي فأنت يا محمد تتشاغل عنه، وتتلهى
بالانصراف عنه إِلى رؤساء الكفر والضلال ! !
القرآن موعظة وذكرى:
{كَلا
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ(11)فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(12)فِي صُحُفٍ
مُكَرَّمَةٍ(13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَة ٍ(14)بِأَيْدِي
سَفَرَةٍ(15)كِرَامٍ بَرَرَةٍ(16)قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا
أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ
فَقَدَّرَهُ(19)ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)ثُمَّ أَمَاتَهُ
فَأَقْبَرَهُ(21)ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ(22)كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا
أَمَرَهُ(23)}.
سبب النزول:
نزول الآية (17):
{قُتِلَ
الإِنْسَانُ..} : أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ
مَا أَكْفَرَهُ} قال: نزلت في عُتْبة بن أبي لَهَب حين قال: كفرت برب
النجم.
{كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي لا تفعل بعد اليوم
مثل ذلك، فهذه الآيات موعظة وتبصرة للخلق، يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها
العقلاء {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء من عباد الله اتعظ بالقرآن،
واستفاد من إِرشاداته وتوجيهاته، قال المفسرون: كان صلى الله عليه وسلم
بعد هذا العتاب، لا يعبس في وجه فقير قط، ولا يتصدى لغني أبداً، وكان
الفقراء في مجلسه أمراء، وكان إِذا دخل عليه "ابن أم مكتوم" يبسط له رداءه
ويقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي .. ثم بعد هذا البيان أخبر عن جلالة قدر
القرآن فقال {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} أي هو في صحفٍ مكرمة عند الله
{مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} أي عالية القدر والمكانة، منزهة عن أيدي
الشياطين، وعن كل دنسٍ ونقص {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي بأيدي ملائكة جعلهم
الله سفراء بينه وبين رسله {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} أي مكرمين معظمين عند الله،
أتقياء صلحاء {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ} ثم ذكر تعالى قبح جريمة الكافر، وإِفراطه في الكفر والعصيان
مع كثرة إِحسان الله إِليه فقال {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} أي
لعن الكافر وطرد من رحمة الله، ما أشدَّ كفره بالله مع كثرة إِحسانه إِليه
وأياديه عنده ؟
قال الألوسي: والآية دعاءُ عليه بأشنع الدعوات
وأفظعها، وتعجيبٌ من إِفراطه في الكفر والعصيان، وهذا في غاية الإِيجاز
والبيان {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر
حتى يتكبر على ربه ؟ ثم وضَّح ذلك فقال {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ
فَقَدَّرَهُ} أي من ماءٍ مهين حقير بدأ خلقه، فقدَّره في بطن أمه أطواراً
من نطفة ثم من علقة إِلى أن تمَّ خلقه قال ابن كثير: قدَّر رزقه، وأجله،
وعمله، وشقيّ أو سعيد {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي ثم سهَّل له طريق
الخروج من بطن أمه قال الحسن البصري : كيف يتكبر من خرج من سبيل البول
مرتين ؟ يعني الذكر والفرج {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي ثم أماته
وجعل له قبراً يُوارى فيه إِكراماً له، ولم يجعله ملقى للسباع والوحوش
والطيور قال الخازن: وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات {ثُمَّ إِذَا
شَاءَ أَنْشَرَهُ} أي ثم حين يشاء الله إِحياءه، يحييه بعد موته للبعث
والحساب والجزاء، وإِنما قال {إِذَا شَاءَ} لأن وقت البعث غير معلوم لأحد،
فهو إِلى مشيئة الله تعالى، متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم {كَلا لَمَّا
يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} أي ليرتدع وينزجر هذا الكافر عن تكبره وتجبره، فإِنه
لم يؤد ما فرض عليه، ولم يفعل ما كلفه به ربه من الإِيمان والطاعة.
الرزق مقسوم لبني البشر:
{فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)